الجمعة، 20 نوفمبر 2015

النص:
الغير هو الشبيه واللاشبيه في الوقت نفسه:  هو شبيه من خلال سماته البشرية و الثقافية المشتركة، وهو لا شبيه من خلال خصائصه الفردية أو من خلال اختلافاته العرقية، يحمل الغير، في ذاته، بالفعل، الغرابة والمشابهة، تسمح لنا نوعية الذات بإدراكها على مستوى مشابهتها، وكذا على مستوى عدم مشابهتها. إن الإنغلاق المتمركز حول الذات يحول الغير إلى كائن غريب، بينما الانفتاح الغيري يحوله إلى كائن متآخي . فالذات بطبعها منغلقة ومنفتحة.
[...] تنغرس مسألة الإزدواجية في أعماقنا النفسية، ويتبين من خلالها أن كل واحد منا يحمل في ذاته أنا آخر، هو في نفس الوقت غريب عن الذات ومطابق لها.(أحيانا نقف أمام المرآة في حالة اندهاش، نحس أننا غرباء عن أنفسنا في الوقت الذي نتعرف عليها أيضا). ويعود السبب في ذلك إلى أننا نحمل في ذواتنا هذه الثنائية (أنا هو الآخر) التي نستطيع من خلالها، إدخال الآخر وإدماجه في ذاتنا على مستوى التعاطف والصداقة والحب [...].
وإذا كانت الذات مهملة فإنها تشعر بالإهانة أو الإعاقة أو الألم. لقد لاحظ روسو عن حق أن الإنسان في حاجة إلى الاعتراف به، وهو ما أكد عليه تودوروف. فالحاجة إلى الغير هي حاجة جذرية، لأنها تشهد على عدم اكتمال الذات/الأنا عندما لا يعترف بها، أي عندما تفتقر إلى الصداقة والحب. لقد كان هوجو على حق عندما قال: "يكمن الجحيم بأكمله في كلمة واحدة هي العزلة".
 النص ل"إدغار موران"
نصوص فلسفية في الوضع البشري، المعرفة، السياسة، الأخلاق،دار أبي رقراق للطباعة والنشر،الرباط، 2012.(ص ص47-48)

                                    نموذج تطبيقي لتحليل ومناقشة النص                      
   لا نجانب الصواب إن قلنا إن السجن الإنفرادي من أقسى العقوبات التي يمكن أن تتخذ في حق السجين. ولعل التأمل في هذا الأمر يكشف لنا عن الحاجة التي يستشعرها كل واحد منا اتجاه الغير ليتقاسم معه لحظات الفرح والحزن في إطار علاقة الصداقة أو الحب- هذه الحاجة عبر عنها بإبداعية الفيلم السينمائي "وحيد في العالم" Seul au Monde -. بيد أن الأمر ليس بهذه البساطة التي قد نتخيلها، لا لشيء إلا إن الغير يتبدى بصور أخرى، فهو كذلك مصدر تهديد للأنا في فرديتها، وهو الغريب عنها أيضا، والطرف الآخر في الصراع...نجد أنفسنا، إذن، أمام ثلة من المفارقات التي سيستمد منها الغير طابعه الإشكالي. وهذا النص – الذي نحن بصدد مقاربته -  يدخل ضمن هذا السياق، وينفتح على مجال الوضع البشري. وإذ يطرح مشكلتي وجود الغير والعلاقة معه في إطار تحديد ماهيته، فإنه بوسعنا إثارة  الأسئلة التالية: مالغير؟ أهو ذلك الأنا الآخر الذي تجمعني به المشابهة، أم الذي تفصلني عنه الغرابة ؟ وهل يشكل وجوده شرطا لوجودي واكتمالي، أم أنه يمثل تهديدا لهويتي وفرديتي؟ ثم إلى أي حد يمكن أن أنسج معه علاقة صداقة وتعاطف؟ أليس حريا بي النظر إليه كغريب يتعين الحذر منه؟
   يدافع إدغار موران عن دعوى مضمونها أن الغير شبيه ولاشبيه بالذات. وتتأرجح علاقتها به بين التآخي والغرابة بالنظر لانفتاحها أو انغلاقها. كما أكد على حاجة الأنا الجذرية إلى الغير.
   بداية استهل الفيلسوف نصه بتحديد الغير باعتباره ذلك الشبيه واللاشبيه في آن واحد. ويفسر هذا التعريف الذي قدمه. وبعبارة أوضح إن الغير هو ذلك الأنا الآخر الذي يشبهني ويتقاسم معي ثلة من السمات الإنسانية - أي الإنتماء إلى النوع البشري- والثقافية متمثلة في امتلاك الثقافة، وربما الإنتماء إلى نفس الثقافة الإسلامية أو المغربية مثلا. ومع ذلك فالآخر - حتى لو كان أخا توأما لي - يختلف عني في ماهو فردي مثل الميولات والهوايات و طريقة اللباس والذوق الموسيقي و البصمة الوراثية...و قد يختلف عني في الإنتماء العرقي (عرب - أمازيغ - كرد -أتراك...). ويواصل صاحب النص مؤكدا – في إطار إقامة تقابل – أن الإنغلاق المتمركز على الذات، أي اتخاذ موقف الإنطواء والتعالي على الآخرين باعتبارهم هوامش تدور في فلك الأنا، لا يمكن أن ينتج عنه إلا نسج علاقة سلبية معهم, فحينئذ يصير الأغيار غرباء وأجانب وجب الحذر منهم، ماداموا مصدر كل خطر يتهدد الذات (الفردية والجماعية). وبالمقابل فإن الإنفتاح الغيري يدفعني للتآخي مع الغير. وبتعبير آخر إن تواصلي واقتناعي بوجود مشترك إنساني بيني وبين الغير (القريب أو البعيد) يحفزني على بناء علاقة إخاء واحترام متبادل معه. ولننظر في واقعنا حتى يتضح لنا هذا الأمر جيدا. فعلى سبيل المثال إن إنغلاقنا على الذات المغربية (الجماعية ) من منطلق التفوق سيجعلنا ننظر للمهاجرين الأفارقة كغرباء نحملهم مسؤولية كل ما قد يلحق بنا من أثافي (شرور). على خلاف ذلك فإن انفتاحنا يساعدنا على كشف المشترك معهم (الإفريقي والتاريخي والجغرافي...). ولنتذكر هنا المركزية الأوروبية وما أنتجته من حروب استعمارية من موقع التعالي على الشعوب الأخرى "المتخلفة" .
يبدو إذن أن انغلاق الذات - وانفتاحها في ذات الوقت مؤشر على هذه الازداوجية والثنائية التي تسكن كل واحد منا كما يوضح إ.موران، وتبدو الذات هنا كأنا مفكرة متطابقة مع نفسها، وغريبة عنها، ومنفتحة بالقدر الذي تبدو فيه منغلقة، مما يجعلها ذات طابع مركب. ثم إذا كنت أنا هو أنا ( في كل مراحل عمري) فإنني كذلك أحمل - في فكري وثقافتي وتوجهاتي الإيديولوجية...- معي أنا آخر. فإن كنت مطابقا لذاتي، فإني غريب عنها أيضا. فمن منا لم يواجه تلك الفترات التي يتساءل فيها : هل أنا من قام بهذا الفعل حقا؟ أأنا قلت ذلك فعلا؟ وليوضح الفيلسوف هذه الثنائية -التي تبعث على التعجب - أورد مثال الإحساس بالإندهاش والغرابة التي نشعر بها أحيانا حين نواجه أنفسنا في المرآة، وندخل في حوار داخلي (المونولوج) وكأننا نحاور "شخصا آخر" لا ندركه. ويقدم فيلسوفنا تعليلا لهذا الشعور المزدوج، معتبرا أنه ذاته يمكننا من استدماج واستدخال الغير في ذاتنا، كما يحدث في علاقات التعاطف والصداقة والحب. فكيف يمكنني أن أشارك السوريين في مآسيهم وأحزانهم لولا أنني أحمل في ذاتي الكائن الإنساني الآخر؟ ثم أليست الصداقة الخالصة بين شخصين بمثابة روح واحدة في جسدين؟ ويتيبن الأمر بجلاء حين نستحضر قصص الحب حيث يغدو كل طرف وكأنه يحل (الحلول) في الطرف الآخر.
وعلاوة على ذلك فقد اعتبر صاحب النص أن شعور الذات بالإهانة  أو الألم أو الإعاقة مشروط بإهمالها. مما يعني أن عدم اعتراف الغير بالأنا ولامبالاته بها يجعلها فريسة الألم ويمتهن كرامتها، بل ويعيقها عن المضي قدما. ولنستحضر في هذا السياق الرسام العالمي فان كوخ الذي كانت حياته دراماتيكية (مأساوية) ويشهد على ذلك إقدامه في لحظة ألم حاد على قطع جزء من أذنه. ولربما كان سبب ذلك (إضافة إلى الألم الجسدي) معاناته المعنوية جراء الإهمال، وهو الذي لم يكن أحد يعير لوحاته التشكيلية أي اهتمام، وكانت تباع بأبخس الأثمنة.
ولتأكيد حاجة الأنا (السيكولوجية) ليعترف الآخرون بها، يستشهد إدغار موران بكل من ج.ج. روسو وتودوروف، ويستحضر كذلك قول الروائي الفرنسي فيكتور هوجو "يكمن الجحيم بأكمله في كلمة واحدة هي العزلة". ودلالة ذلك أن وجود الغير واعترافه بي حاجة جذرية، أي ضرورة لا مندوحة عنها لكل ذات. ويمكن أن نفهم هذه الحاجة بالمعنى السيكولوجي والإجتماعي كذلك (فضلا عن الحاجة البيولوجية للتناسل وإستمرار النوع البشري). فالشعور بالإطمئنان والأمان، والإحساس بالإنتماء والمشاركة...كل ذلك لا يتأتى للذات إلا بوجودها مع الغير وربط صلة الصداقة والحب معه. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن كل واحد منا يستشعر في نفسه الحاجة للإكتمال، إذ يظل ناقصا بدون الغير، فالذات ليست مكتفية بذاتها. (الحاجة مثلا إلى المثاقفة لإغتناء الحضارات ورقيها) و لا شك أن العزلة والوحدة أشد عقاب نفسي ومعنوي (بل ويمكن أن تنتج عنه أمراض نفسية). وكما قال مالبرانش "أكبر عقاب لي أن أعيش وحيدا في الجنة".
وبعد أن استجلينا موقف الفيلسوف من الإشكال الذي طرحناه أعلاه يحق لنا أن نتساءل: أية قيمة فلسفية تتضمنها هذه الدعوى؟ وماهي أوجه قصورها؟
تتجلى أهمية هذه الأطروحة في محاولتها استيعاب أوجه العلاقة مع الغير، وربط ذلك بانغلاق الذات أو انفتاحها. إن إ.موران يقدم تصورا تركيبيا لا يقع في إسار (قيد) النظرة الأحادية للغير(الغرابة /المشابهة - الغريب/الكائن المتآخي) أو الذات ( إنغلاق/ انفتاح- آنا/ آخر). ومثل هذا الموقف لا نعدم حججا له من واقعنا المعيش تؤيده. ولينظر كل واحد منا إلى مساره الشخصي والدراسي والمهني ليدرك أن حضور الغير ضرورة لا ترف، وأن هذا الحضور لا ينخذ شكلا واحدا، بل يتأرجح بين الطابع السلبي والإيجابي بحسب شخصية كل واحد منا (شخصية إنطوائية/ اجتماعية...). ويمكننا أيضا أن نلمس دفاعا - مضمرا - من لدن فيلسوفنا عن أهمية تأسيس العلاقة مع الغير على أسس قيمية وأخلاقية إيجابية، تراعي النقصان الذي يسكن الذات، والذي يبرر الحاجة للتواصل مع الآخر( التواصل الوجداني والمعرفي والثقافي ...).
وعلى الرغم من أهمية الأطروحة – لما أتتينا على ذكره – وقوة بنائها الحجاجي، بالنظر لتنوع حججها وتسلسل أفكارها، وإقرارنا صحبة الفيلسوف بالحاجة إلى الغير فإن ذلك لا ينبغي أن يكون مبررا للإنغماس في الوجود الإجتماعي وذوبان الذات فيه. إذ ينبغي للذات أن تحافظ دوما على مسافة تفصلها عن الإنصهار في الوجود مع الغير. وبتعابير هايدغرية نقول إن الموجود-هنا حين يوجد على نمط الوجود مع الغير يكون عرضة لفقدان خصوصياته، يفكر ويحلم  ويحيا...كما أراد له الآخرون لا كما يريد هو ذاته. ولنتذكر – في هذا السياق – أن الإنفتاح على الثقافات الأخرى لا يعني البتة الإنصهار فيها كما تريد العولمة مثلا في سعيها الحثيث لتسييد ثقافة واحدة، والقضاء على الثقافات الأخرى، وبالمقابل لا ينبغي اتخاذ هذا الأمر مبررا للتقوقع والإنكفاء على الذات.
إن هذا التمركز على الذات هو عينه ما سيسقط فيه الموقف الديكارتي الذي يزعم أن الذات المفكرة قادرة على أن تكتفي بذاتها، وتتبث وجودها من خلال تفكيرها وتأملها في ذاتها (أنا أفكر، إذن أنا موجود). ويظل وجود الأنا في نظر ديكارت بمثابة حقيقية بديهية يمكن إدراكها حدرسيا، فضلا عن أن التفكير سمة ملازمة للأنا دوما (حتى في حالة النوم). لا يسعنا إلا الإعتراف بأصالة هذه الدعوى (خاصة حين نضعها في سياقها التاريخي والسوسيوثقافي) ، التي رامت إثبات استقلالية الذات عن كل سلطة خارجية، وإعادة الإعتبار للإنسان والعقل. ومع ذلك فإن هذا التصور يظل محدودا. فهل يمكن للذات أن تفكر دون أن تستحضر الغير؟ من المؤكد أن الأمر يبدو محالا مادام كل موضوع طرقناه (سياسة- دين – أخلاق – معرفة ...) نجد الآخر حاضرا فيه.
 وهي ذاتها النتيجة التي ينتهي إليها ميرلوبونتي، إذ "الذاتية المتعالية هي بين- ذاتية " بتعبيره. أي أن كل محاولة للإنفصال عن الغير تبدو غير ممكنة التحقق مادام الغير حاضرا معنا في تفكيرنا وآمالنا وانشغالاتنا. ففي كل فعلنا يحضر التواصل والحوار مع الغير، بشكل مباشر أو غير مباشر.
وإذا كان من الممكن أن نتفق مع صاحب النص في ماذهب إليه من حاجة الأنا للإعتراف بها من طرف الغير، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف يمكن تحصيل هذا الإعتراف؟ وهل يمكن أن يتم ذلك بشكل سلمي؟
عن هذا السؤال ينبري الفيلسوف الألماني ليجيبنا مؤكدا على ضرورة الغير لثبت الذات وجودها، ولتنتزع الإعتراف بها. إلا أن هذا الأخير لا يمكن أن يكون إلا نتاج صراع بين الذات والغير، ينبغي ألا ينتهي بموت أحد الطرفين أو هما معا، كما يوضح لنا ألكسندر كوجيف. وهو ما يقتضي من الطرفين سلوك نهجين متباينين أثناء الصراع، بما يسمح بظهور وتشكل الواقع البشري والإجتماعي. وبعبارة أخرى تكشف لنا جدلية العبد والسيد أن الوعي بالذات لا يتم إلا بواسطة ومن خلال وعبر الغير. فهو بمثابة المرآة التي تمكننا من رؤية ذواتنا. فكيف يمكنني أن أدرك ذاتي  وأخلاقي  وعيوبي ومزاياي...حين أهجر العيش مع الآخرين، وأنعزل عنهم؟
يدفعنا الموقف الهيجلي إلى التركيز على ما يجمع الذات بالغير من صراع (بغية "الإستعراف")، وإن كان تاريخ البشرية أشبه بكتاب يضم صفحات كثيرة كتبت بالدماء، اتخذ فيها صراع الذات مع الغير أوجها طبقية، وطائفية، وعرقية، وحضارية...فإن ذلك لا ينبغي أن يمنعنا من رؤية الوجه الإيجابي لتلك الصلة، متجلية في التعايش بين الأديان والإثنيات ، والتبادل الثقافي كذلك، الذي أسهم في بناء الحضارة الإنسانية. في ذات المنحى يشير أرسطو  إلى أهمية الصداقة كفضيلة وقيمة أخلاقية، وكضرورة وحاجة لا مناص منها. ففي كل مراحلنا العمرية (طفولة – شباب...) وحالاتنا النفسية (حزن – فرح...) وأوضاعنا الإجتماعية والإقتصادية (فقر - غنى - بؤس - رخاء...) نظل في حاجة لأصدقاء. وأفضل الصداقات وأدومها ما بني على الخير والمحبة والفضيلة لا ما قام على أسس مادية زائلة لا محالة (صداقة المتعة والمنفعة).
إن التأمل في الصداقة يكشف لنا عن خصوصياتها، ففي ثناياها تضم علاقات الأخوة والتعاطف والحب وتبادل الخير والثقة ...بما يجعلها أرقى المشاعر، على أن تقوم على أساس احترام الإختلافات بين الأصدقاء، لا السعي لمحوها. ويحضرني هنا قول مونتيني- حين سئل عن سر صداقته الوطيدة مع لابويسيه مؤلف "مقال في العبودية المختارة" –  حيث قال: "لأنه كان هو، ولأنني كنت أنا".
جماع القول إن الغير ذلك الأنا الآخر  الذي أحتاج إليه لأكمل ذاتي(إ.موران)، وأثبت وجودي (هيغل)، دون أن أذوب في الوجود على نمطه (هايدغر). ولأنني لا أستطيع الإكتفاء بذاتي والتعالي على الأغيار (كما قال ديكارت) فإنني بحاجة للإنفتاح عليهم، ومحاولة التعرف عليهم، في إطار الحوار البناء و التبادل المثمر والتواصل الفعال (ميرلوبونتي) وقبول الإختلاف، مع الوعي بمحدودية كل صراع وآثاره المدمرة على النوع البشري ككل. فهل بإمكان الذات أن تتجاوز عوائق الذاتية واللغة والإختلاف...لتدرك الغير بموضوعية؟

    


ملحوظة: تستند هذه الورقة  إلى المذكرة رقم 159 ، الصادرة بتاريخ 16 ذو الحجة 1428، الموافق ل 27 دجنبر 2007.
           مذكرة رقم: / 14093 الأطر المرجعية المحينة لمواد الإمتحان الوطني للبكالوريا 2014 – مادة الفلسفة- 25 يونيو 2014 

    
خطوات الإشتغال على النص الفلسفي (ورقة التحرير)


            المستوى : السنة الثانية  بكالوريا                                  إنجاز:   ذ. اسماعيل فائز



الكفايات المنهجية

عنــاصــر الكتــابـــة الفــلســفــيــة
سلم    التنقيط

مطلب
 الفهم

- كتابة تمهيد أو مدخل للموضوع .
- تحديد قضية النص (تأطيره).
- التعبير عن الإشكال الصریح أو الضمني الذي يعالجه النص
 (على شكل أسئلة مترابطة ومتدرجة تتضمن المفارقات و الإحراجات الأساسية ) .

4 نقط



مطلب
التحليل


- استخراج الأطروحة التي يتضمنھا النص.
- شرح  وتأويل المضامين الأساسية للنص، بالموازاة مع تحديد البنية المفاهيمية (أي تعريف المفاهيم الأساسية مع إبراز العلاقات الناظمة لها) وكذا استحضار الحجاج المعتمد في الدفاع عن الأطروحة.
 ينبغي تجنب تفكيك وعزل عناصر التحليل عن بعضها البعض.


5 نقط



مطلب
المناقشة

- النقد الداخلي: تحديد القيمة الفلسفية للأطروحة (أهميتها)، مع تبيان أوجه محدوديتها (قصورها).
- النقد الخارجي: مناقشة الأطروحة من خلال الإنفتاح على رؤى فلسفية تعالج الإشكال نفسه ( واستحضار موارد معرفية أدبية وتاريخية وفنية وعلمية...لإغناء الموضوع) .



5 نقط


مطلب
التركيب
- تركيب نتائج التحليل والمناقشة.
- إبراز المجهود الشخصي (الإستنتاج الشخصي ).
- إمكانية الإنفتاح على إشكال ذي صلة بالموضوع.

3 نقط



مطلب الجوانب
الشكلية
- سلامة اللغة من الأخطاء الإملائية والنحوية، وعدم إهمال علامات الوقف والترقيم.
- الكتابة بخط واضح و مقروء.
- تماسك خطوات الكتابة الفلسفية، باعتماد أسلوب حسن التخلص.


3 نقط


السبت، 6 يونيو 2015

نماذج من كتابات التلاميذ الفلسفية
السؤال الإشكالي المفتوح: بأي معنى تختار الذات أفعالها؟

موضوع جيد بعيدا عن نمطية الكتابة الإنشائية الفلسفية
ملحوظة: تم رقن الموضوع دون تغيير

يعرف الشخص بالذات المستقلة،الواعية، والحرة في تصرفاتها واختياراتها، ولذلك كانت الحرية - ولازالت - مطلب كل إنسان، نسخر حياتنا رغية في بلوغها، مما يحيل على أهميتها ومكانتها، فالشخص متميز عن الكائنات الحية الأخرى لتملكه جملة من المميزات أهمها الوعي، المسؤولية والحرية، وهي مفاهيم ترتبط في ما بينها، فالشخص الواعي يستطيع التعالي على الحتميات وتحقيق حريته، فيكون بذلك مسؤولا، خاصة وأنه هو من اختار ماهيته. وإلا فخضوعه للحتمية يخرجه من دائرة المسؤولية. وهو ما تتناوله مجزوءة "الوضع البشري"، خاصة حول ما إن كان الشخص- كمفهوم فلسفي وازن - ذاتا حرة أم كيانا خاضعا.
فهل الشخص ذات حرة أم كيان خاضع لجملة من الحتميات؟ بمعنى هل الشخص مشروع منفتح على إمكانيات عدة، أم أن الحرية ليست إلا سرابا ووهما؟ أنحن من يحدد ماهيتنا وبذلك نكون مسؤولين، أم أننا لسنا سوى ترجمة نمطية للظروف الإجتماعية التي دعينا إليها؟ وأخيرا، إلى أي حد يمكن للشخص بتملكه للوعي أن يتعالى على الضروريات التي تقيده؟
استند السائل في استفساره الإشكالي الفلسفي على أداة الإستفهام "بأي معنى..؟"، وهو ما يحيل إلى بحثه وتساؤله عن المجال الذي يتاح فيه للذات فرصة الاختيار، وكذا شروط التعالي على مجموع الإشراطات والضروريات التي تمنعها من تملك حريتها والظفر بها. وهو ما تؤكد عليه كثافة البنية المفاهيمية التي وظفت في السؤال، حيث دعمت التساؤل على الحدود التي تكون فيها الذات كشخص يمتلك الحرية والوعي والإستقلالية قادرة على تحديد وتعيين اختياراتها وسلوكاتها ووجهاتها، عن طريق وعيها وقدرتها على الاختيار وتجاوز الحتميات،بعيدا عن مفاهيم الخضوع والإذعان والقبول بالنمطي.
يعتبر الشخص حرا لأنه ذات تمتلك عقلا، وهوية و"أنا" يجعله متفردا عن مختلف الكائنات الحية الأخرى، ومتميزا على الأشخاص الآخرين. كما أنه له قيمة، يختلف مصدرها، فقد يستحقها لنبل أخلاقه ومبادئه، أو لمكانته الاجتماعية أو لزاده المعرفي.
ولذلك فهو جدير بتمتعه بالحرية، وبفرصة اختيار توجهاته ومسالكه، حتى يستطيع بناء نفسه وبلوغ مايصبو إليه، فالشخص يعيش لذاته وليس للآخرين، ولذلك يجب أن يسعى لتأكيد تميزه وتفرده والمحافظة على خصوصياته.
صحيح أننا ولدنا في العالم، ولكننا لم نولد منه، ولسنا مجبرين لأن نكون نسخة لما هو موجود مسبقا، وكأننا ضيوف يتعين عليهم القبول بما حضر والإذعان والطاعة له.
وهو المنحى الذي يسير فيه الفيلسوف "جان بول سارتر" إذ يعتبر الإنسان مشروعا، منفتحا على إمكانيات عدة، تتيح له فرصة التصرف في حياته كيفما أراد هو، مع ضرورة تحمل النتائج والقبول بها والتعامل بمسؤولية مع نعمة الحرية. لكن هذا لا يعني غياب حتميات وضروريات تكبل الشخص، إلا أن "سارتر" يرى أن الشخص وبفضل العقل والوعي له القدرة على التعالي على تلك الحتميات ومن ثم بناء ذاته واستشراف المستقبل. وفي هذا الإطار، ينتقد الأطروحة الماهوية التي ترى أن ماهيتنا تسبق وجودها، لأن في ذلك تصريح بغياب مفهوم الحرية، في حين سارتر يرى العكس، حيث نحن من يحدد ماهيتنا باستغلال حق الحرية، وعدم تجريدها من طابعها المسؤول لكن ماذا عن الواقع، أفعلا الشخص ذات حرة؟
لكل مجرى مائي ضفتان، ولذلك فالضفة النقيض تذهب لما مو واقعي أكثر، حيث تنطلق من التجارب اليومية، إذ لا يمكن غض الطرف عن جملة من الحتميات والإشراطات تقزم من دائرة الحرية التي يتمتع بها الشخص، بل إنها تجعل (أي الحرية ) من مطاردتها أشبه بمطاردة سراب، وتضع الشخص في سجن الخضوع والطاعة.
فنحن لم نختر جنسيتنا، ولا دياناتنا، ولا أسماءنا...،فقد ولدنا مغاربة مسلمين..وأرغمنا على القبول بذلك، كما اننا نعيش داخل تنظيم سياسي، يستند إلى دستور يضم مجموعة من البنود، ويتعين علينا كمواطنين احترامها وعدم التمرد عليها أو رفضها.بالإضافة إلى أننا كتلاميذ كان علينا الخضوع والإذعان لبيداغوجية تعليمية لم نجن ثمارها بعد.
كلها أمثلة حية مستقاة من واقعنا المعيش، تصرح بغياب الحقوق الضرورية التي ينبغي للشخص أن يظفر بها، خاصة الحرية التي أصبحت - خاصة داخل المجتمعات المستبدة - مجرد وهم. وهو ما يشهد له طرح الفيلسوف "اسبينوزا"، الذي يرى أن الحرية التي نتبجح ونتشدق بامتلاكها ليست سوى وهم ناتج عن وعينا بسلوكاتنا وأفكارناوشهواتنا ورغباتنا في مقابل جهلنا للأسباب التي تجعلنا نتصرف كذلك أو نفكر أو نرغب..في شيء معين، ثم جهلنا أيضا بالحتميات والشروط الطبيعية الإلهية التي تتحكم في ذلك. فالذكر عنيف، ولكن ليس وفقا لرغبته وبمحض إرادته، وإنما هي أمور تعود لمسائل طبيعية هرمونية، تجعل من العنف طابعا يميز الذكور عن الإناث. ولتفسير الوجهة التي نحاها الفيلسوف "سبينوزا" يقترح علينا مثال "الحجرة" التي تتحرك، معتقدة أن حركتها نتاج فعلها الذاتي، جاهلة بوجود قوة خارجية تؤدي إلى ذلك. 
البادي أننا وإن تحدثنا عن حق يسمى الحرية، فحديثنا دائما يبقى مقيدا بإشراطات وحتميات، تجاوزها لن يحقق إلا حرية نسبية مقيدة بالمسؤولية مثلا كما يرى "سارتر". وإلا فسعينا نحو تملك الحرية، أو التبجح بامتلاكها ليس سوى ترجمة لجهلنا بتلك الاشراطات كما يرى"سبينوزا". وأرى أن التسليم بوجود حرية مطلقة أقرب إلى العالم المثالي منه إلى الواقع، لذلك يحسن بي أن أتحدث عن حرية ترتدي لباس المسؤولية وتحمل عواقب اختياراتنا وتصرفاتنا. فطورا تتاح لنا الفرصة ونستطيع تجاوز ما حال دوننا ودون حريتنا وفرصة بناء حياتنا بالحبر الذي اخترناه نحن، فنكون بذلك مرغمين على تحمل مسؤولية ذلك، والسعي نحو بناء الذات وتفردها عن الآخرين حتى لا نكون تخطيطا بحبر الرتابة و النمطية. فإلى أي حد يمكن أن تكون الحرية مصدر قيمة الشخص؟


إنجاز: هاجر التجموعتي

الأربعاء، 13 مايو 2015

نموذج تطبيقي (النص ل "كارل ماركس,مباهج الفلسفة، السنة الأولى من سلك البكالوريا, ص108")

لا يخلو العمل داخل المناجم من مظاهر القسوة والإستغلال، تتجسد في ظروف العمل الصعبة التي قد تودي بحياة العامل، وفي الأجور الزهيدة التي لا تتناسب والأثر المادي الذي ينتجه (استخراج المعادن النفيسة خاصة)، مما يخلق نوعا من الإغتراب المزدوج- إن صح التعبير- لدى العامل: اغتراب أثناء العمل ، وبعد الإنتهاء منه. و على الرغم من ذلك فإن النظرة الكلية عن الشغل تدفع إلى اكتشاف تجليات تحريره للإنسان من سلطة الطبيعة، ومن الخضوع للمعطى الطبيعي البيولوجي، ومنحه قدرا من الإستقلالية عن الغير. و على ضوء هذه المفارقات سنحاول قراءة  هذا النص – الذي ينفتح على مجال الفاعلية والإبداع، ويثير قضية تأرجح الشغل بين الإستلاب والحرية- مسترشدين بالإشكالات الآتية. هل الشغل يحرر الطاقات الإبداعية والفكرية للإنسان ويسهم في استقلاله فعلا، أم أنه ليس إلا استلابا لحريته وهدرا لإنسانيته؟ ثم ألا يؤكد العامل ذاته بواسطة الشغل ؟ وإلى أي حد يمكن القول إن الشغل يفقد العامل ذاته، ويجعله مغتربا؟
يتقدم صاحب النص بأطروحة مؤاداها أن العمل  استلاب واغتراب للعامل، ويترتب عنه نفي الذات الإنسانية. فكيف عرض ودافع الفيلسوف عن هذه الدعوى ؟

استهل فيلسوفنا نصه هذا بإثارة سؤال استفساري حول تجليات استلاب العمل. و قد أجاب عنه مستعرضا أهم مظاهر هذا الإستلاب، مؤكدا أنه يتمثل في انفصال هذا العمل عن العامل، إذ أنه ليس نابعا من حاجة سيكولوجية أو رغبة ذاتية، بقدر ما هو قائم على السعي لتحصيل موارد مادية تؤمن له الحاجات (البيولوجية) الأساسية. وعلاوة على ذلك يشكل العمل نفيا لذات وكيان العامل، ذلك أنه يفرغه من مشاعره الإنسانية و آماله وأحلامه، ليصير أشبه بالإنسان الآلي (ولنتذكر هنا انتقادات كل من ف.انجلز F. Engels  ودي توكفيل  A.D . Tocqueville لظاهرة تقسيم العمل الذي يشيئ العامل،ويجعله مجرد آلة تكرر عمليات جد دقيقة طوال مدة العمل ). ومن البديهي – والحال هذا- أن يشعر العامل بالتعاسة والشقاء، فهو يقوم بحركات ميكانيكية أقرب إلى التعذيب النفسي، وأبعد ما تكون عن المتعة. و في الوقت الذي يعاني جسده يموت فكره كذلك، إذ يضيق مجال تفكيره ويصير مسيجا بعمله "الآلي"، ولا يترك له فرصة التساؤل أو النقد أو الإبداع...الخ.

و في هذا السياق يمكن أن نلاحظ حضور آلية المقابلة كآلية حجاجية توسل بها الفيلسوف بغية إبراز طابع الإستلاب الذي يغلب على العامل، ودحض الدعوى الممجدة للشغل بصفة مطلقة. ويبدو جليا أن تلك الآثار السلبية التي تنجم عن الشغل هي التي تفسر وتثبت ذلك الشعور الذي يتملك العامل بفقدان وضياع ذاته أثناء العمل. فبدل أن يحقق ذاته، و يؤكد إنسانيته، ويكرس استقلاليته، يجد نفسه ضائعا ومغتربا وسط نشاط وفاعلية يمارسها تحت ضغط الحاجة (البيولوجية) والفقر. فلا غرو إن كان يحاول جاهدا التخلص من هذا العمل، وإن كان لا يستعيد ذاته إلا خارجه.
في هذا الإطار نصادف مفهوم الإستلاب الذي يشكل محور النص –الذي نعالجه- والذي يحيل إلى شعور العامل بفقدان وضياع ذاته، واغترابه عن عمله. فهو مستلب داخل الشغل الذي يهدر إنسانيته وينفيها، و يفقده حريته، وهو كذلك غريب عن منتوجه الذي ليس ملكا له بل إنه ملك لغيره(رب العمل). وبعبارة أخرى لا يتملك العامل ما ينتجه، بل يتملكه أولئك الذين لا يعملون. وواقعنا المعيش يعري ظروف العمل القاسية التي يعاني منها العمال ككل، ولننتبه هنا إلى عمال البناء الذين يبنون المنازل والفيلات ويسكنون الأكواخ. ولنتذكر أيضا عمال المناجم الذين يستخرجون بعض الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة التي قد تباع بأثمنة خيالية في المزادات، في الوقت الذي ينشغلون فيه بتوفير متطلبات الحياة اليومية البسيطة. فأي اغتراب أمر (من المراراة) من شعور العامل بالعجز تجاه منتوج أسهم في إنتاجه!
ويتضح مما سلف أن الشغل يشير إلى تلك الفاعلية الإنسانية التي يستلب فيها الإنسان العامل ويغترب داخلها، كما أنه يفقد فيها  ذاته ولا يؤكدها، و تجعله في وضع التبعية لا الإستقلالية.
ينتهي بنا الفيلسوف إلى استنتاج مفاده أن الإنسان-العامل، بفعل هذا الإستلاب، تنقلب لديه المعادلة رأسا على عقب،"فما هو حيواني يصبح إنسانيا، وماهو إنساني يصبح حيوانيا" على حد تعبيره. ويعني هذا أن العامل يجد نفسه تلقائيا وعفويا وهو يمارس وظائف حيوانية (من قبيل الأكل والشرب والتناسل)، و يشعر بالمتعة وكأنه استعاد ذاته التي ضاعت منه في العمل، وعلى خلاف ذلك يتحول الشغل - النشاط الإنساني بامتياز مبدئيا- إلى مجرد فعل محكوم بالسعي لإشباع حاجات حيوانية، فتنتفي بذلك إنسانيته لتحل محلها حيوانيته في الشغل.
 يتمحور النص،إذن،حول فكرة الإستلاب والإغتراب التي تحضر في الشغل. والسؤال الذي يفرض نفسه،هنا، هو: ما هي أبعاد هذه الأطروحة؟
قد لا يسعنا أن ننكر القيمة الفلسفية لهذه الدعوى التي تكشف عن واقع العمل المزري (في مجتمعاتنا بدرجة أوضح، وفي المجتمعات الرأسمالية بدرجة أقل جلاء)، التي يمكن نعتها بنوع من "النيو-عبودية" (إن جاز التعبير)، ترتسم ملامحها في ارتفاع ساعات العمل، وانخفاض الأجور، ومشاكل تسريح العمال ، ولا ننسى انعكاسات نظام الآلية (أو المكننة) التي توقف عندها الأمركي ج.فريدمان  G. G.Friedmann مطولا مبينا سلبياتها،و تشييئها للعامل.وقد زادت ظاهرة تقسيم العمل وفق النظام "التايلوي" من مظاهر استلاب العامل حين جزأت حركاته وسعت لضبطها،فاستحال العامل إلى مجرد آلة تكرر حركات روتينية، تترك "ندوبا نفسية" تحتاج إلى علاج نفسي ربما. كما لا ينبغي أن نغفل تحول العامل إلى أداة في خدمة المجتمعات الإستهلاكية. (وهو الأمر الذي انتقدته كثيرا مدرسة فرانكفورت الفلسفية مثلا). ولعل اهتمام المجتمعات الرأسمالية بتطوير "علوم الشغل" يعكس بوضوح تلك النظرة التي لا ترى في الإنسان-العامل إلا وسيلة لزيادة الإنتاج والربح، وإذ يتراكم عدد أثرياء العالم يزداد عدد الفقراء بالمقابل.
إذا كان لهذه الرؤية السلبية للشغل ما يبررها، فإن الإفراط فيها يجعلنا ننظر بعين واحدة فقط. فهل يمكن أن نغض الطرف عن كون العمل يمثل الوسيلة الأنجع لنهضة الأمم؟ وهل بمقدورنا أن ننكر أن الإنسان تحرر من سيطرة الطبيعة عليه بفضل الشغل؟ ولنلاحظ كذلك أن شروط العمل في المجتمعات الرأسمالية قد تحسنت مقارنة بالمجتمعات السابقة عليها، إذ صارت للعمال حقوق أساسية (نقابية واجتماعية...) نتيجة نضالاتهم الطويلة. أضف إلى ذلك أن نظام المكننة قلص من قسوة العمل.
بالعودة إلى الإستراتيجية الإستدلالية للنص نجدها مقنعة إلى حد ما، ومتماسكة العناصر والمكونات، و جمعت بين الجانب البلاغي (السؤال الإستفساري والمقابلة...) والمنطقي (الإستنتاج)  و مكنت الفيلسوف من استعراض أبرز تجليات الإستلاب. بيد أنه أغفل تدعيم موفقه بمثال مناسب (لما للمثال من أهمية )، كما غض النظر عن الجوانب الإيجابية للشغل. فهل يمكن للإنسان أن يكون إنسانا بدون العمل؟ أليس الشغل نشاطا يعكس الحرية الإنسانية؟

في ذات المنحى الذي يسير فيه الموقف الفلسفي للنص يؤكد ف.نيتشه F. Nietzsche  بدوره أن الخطابات الممجدة للشغل تصدر عن خلفية وإيديولوجية تهدف إلى قمع كل ما هو فردي، وتكريس وحدة الجماعة. إن الشغل عند ليس إلا نشاطا شاقا لهدر الطاقات الإنسانية، و إفراغ الإنسان من كل ما هو إنساني، إنه "الشرطي الأمثل الذي يلجم كل واحد، ويسعى بكل قوة إلى عرقلة تطور العقل والرغبات والميل إلى الإستقلال"، بتعبير فيلسوفنا. ويمكن أن نعزو هذا إلى كون الشغل يهدر الطاقة الإنسانية، و يحرم الإنسان من التأمل والحلم و الحب...الخ يبدو أن الشغل بهذا المعنى يهدف إلى إلهاء فئات عريضة من الجماهير، وإشغالها بالسعي الحثيث لإشباع حاجات حيوانية فحسب. وذلك كله في سبيل ضمان الأمن والإستقرار كما يوضح "فيلسوف المطرقة". ولنا أن نتساءل هنا: أي وقت للمتعة أو للتفكير أو النقد أو التجول يمكن أن يتبقى لعامل يقضي أكثر من نصف يومه بين الذهاب إلى العمل والوصول إلى منزله ( ويستغرق بقية الوقت في النوم وقضاء بعض الأشغال المنزلية مثلا)؟

وجدير بالذكر أن ف.نيتشه لا ينطلق من موقف أخلاقي مثالي يروم بلوغ عالم بدون استغلال، ذلك أن هذا الأخير من صميم الحياة، ولا يمكن تصور عالم بدونه. فهل يعني هذا إمكانية الإستغناء عن الشغل ؟

لا يرفض ج.ب.سارتر J.P.Sartre فكرة الإستعباد في العمل بشكل قطعي، غير أنه لا يسلم بها على نحو كامل أيضا. ويبدو أن موقفه ينطوي على نوع من الإزدواجية، ذلك أنه يبرز من جهة أن العمل لا يخلو من مظاهر استعباد يمكن حصر أهمها في شروط العمل ومدته و المقابل المادي الذي يتحصل عليه العامل وسرقة منتوجه منه. هذا دون نسيان الآثار السلبية لتقسيم العمل. و لكن الشغل من جهة أخرى يظل العنصر "الذي يحرر المضطهد" و" العنصر الثوري" بتعبير رائد الوجودية. فالإنسان لا يتحرر إلا بالشغل، والعامل لا ينفلت من قبضة سيده إلا بالعمل. ووعيه بشروط العمل تلك يشكل بداية في أفق تجاوز ذلك الوضع، والإنفتاح على إمكانات أخرى. و يمكن أن نقول إن الماركسية التي نادت بتوحيد الطبقة العاملة للثورة على النظام الرأسمالي إلا واحدة من تلك الإمكانات.

يتضح أن أطروحة سارتر ،ذات الطابع التركيبي، أكثر إقناعا لأنها لا تنظر إلى الشغل نظرة أحادية، إذ بقدر ما يشكل الشغل استلابا للإنسان، إلا أنه لا يمكن الإستغناء عنه في ذات الوقت، ويظل بمثابة الفاعلية التي يمكنها أن تحرر الإنسان، وتفتح للعامل آفاقا أكثر رحابة متى حصل لديه الوعي بأوضاعه تلك.


وبالجملة فإن الخطابات الفلسفية حول الشغل تراوحت بين مقاربته في أبعاده السلبية (احتقار العمل اليدوي في الفلسفة اليونانية، وكشف مظاهر استلاب العمل عند ماركس، ونقد الشغل عند نيتشه...) من جهة، وبين النظر إليه في بعده الإيجابي (أهمية الشغل في الإقتصاد السياسي الكلاسيكي، و تحرير الشغل للإنسان عند سارتر...).ويمكن القول إن نقد الشروط التي يشتغل فيها العامل أمر ضروري في أفق تحسين تلك الظروف، وليصير العمل فاعلية تضمن الكرامة الإنسانية ولاتهدرها، دون أن يعني إمكانية الإستغناء عن الشغل، إذ الإنسان إنسان لأنه يشتغل.فهل يبرر هذا النظر إلى الشغل كخاصية إنسانية؟

الأحد، 1 مارس 2015

تأرجح الوجود الإنساني بين الحرية و الضرورة

  يبدو أن كل تأمل في الوجود الإنساني يكشف عن توتر و مفارقة تتلخص في الأزواج المفهومية التالية : الحرية/الضرورة أو التناهي/اللاتناهي أو الذاتي/الموضوعي ...يتجسد ذلك في هذا الشعور الذي يتملكنا بين الفينة و الأخرى، و يجعلنا نعتقد أننا نملك مصيرنا و نبني ذواتنا وتاريخنا و مجتمعنا بإرادتنا...فجأة - و على حين غرة - ننصت لصوت آت من بعيد، و كأنه يخاطبنا بنبرة حادة داعيا إيانا إلى التخلص من وهم الحرية، و الإلتفات صوب كل ما يحطم هذا "السراب" الذي خلقه الخطاب الفلسفي و الميتافيزيقي لغايات أخلاقية ربما ( إقرار المسؤولية الأخلاقية و القانونية ...)، أو استجابة لنرجسية ( متوهمة ) تسمو بنا فوق الموجودات الأخرى، و تثبت أفضليتنا مقارنة بها.
  ها نحن قد سقطنا في شرك الحيرة و القلق الذي تعمقه هذه الأبيات الشعرية لإيليا أبو ماضي، و التي تبرز ببساطة شفافة المفارقة التي أتينا على ذكرها : " هل أنا حر طليق أم أسير في قيود هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود" قد تتخذ الحرية الإنسانية صيغة إقرار ديكارتي إيجابي تسنده قناعة فلسفية راسخة قائمة على النظر إلى الإنسان كذات مفكرة واعية،وقد تتبدى على شكل مسلمة كانطية ضرورية لتأسيس الأخلاق، و يمكن اعتبارها كمبدأ معتزلي غايته نفي الظلم عن الذات الإلهية التي منحتنا حرية الإختيار، و التي تستوجب بالتالي تحمل المسؤولية. و ربما تتجسد هذه الحرية على شكل مطلب حقوقي حداثي بدونه لا يستقيم بناء الدولة المدنية الحديثة، أو على هيئة إجماع عالمي يتصدر المبادئ الأولى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ( الذي يعتبر ثمرة تلاقح أنساق فكرية حداثية ليبرالية و اشتراكية...). و يذهب البعض أبعد من ذلك مبرزا أن تطور العلوم المعاصرة يجعل الوعي بالحتميات الطبيعية سبيلا للتغلب عليها أو على الأقل فتح الطريق لمناورتها أو استثمارها ( و تلك حالة الهندسة الوراثية التي مكنت الإنسان من التدخل لتغيير "القدر الوراثي" على سبيل المثال ).
   لقد تشبتت تيارات فلسفية برفض نتائج العلوم الإنسانية التي عملت على تصوير الإنسان كريشة في مهب رياح الإكراهات و البنيات و القوى الخفية، فأكدت بالمقابل أسبقية الوجود على الماهية ( سارتر ) و قدرة الشخص على الإبداع الذاتي في حركة شخصنة لا تتوقف ( الشخصانية )، و يمكن لمفاهيم الذات الفاعلة ( آلان ) أو الديمومة ( برغسون )أن تسعفنا في تدعيم هذا الطرح... هذه الأصوات التي استمعنا إليها – و إن اختلفت منظوراتها و منطلقاتها – تتقاطع في تمجيد الحرية الإنسانية.
   لكن مرة أخرى يطالعنا ذلك الصوت "المزعج" الذي يعيدنا إلى مملكة الضرورة و التناهي، و الذي يكشف خضوعنا لإكراهات موضوعية،تختلف مسمياتها و أسسها، لكنها تلتقي في "تعريتنا" أمام ذواتنا، و سلب الذات الإنسانية أعز ما تملك : الحرية . يصرخ الصوت "المزعج" بملئ حنجرته قائلا : أنت ( أيها الإنسان ) لست إلا مجرد ممثل على خشبة المسرح في "مسرحية" تولى إخراجها القدر ( الجبرية في الفكر الإسلامي و المدرسة الرواقية )، أو ألفها التاريخ بمكر (هيجل) أو سهرت على تأثيتها بنيات مادية أو ثقافية ( البنيويون ) أو تمسك بخيوطها غريزة قوية ( نيتشه ) أو إرادة حياة عمياء ( شوبنهاور ) ، أو توجهها من وراء الكواليس دوافع لا شعورية ( التحليل النفسي )...تتعدد المسميات و يتوحد الصوت، و قد يتسربل برداء لاهوتي أو فلسفي أو علمي أو أسطوري كذلك، فينكأ جراحا نرجسية تفضي في أقصى أشكالها إلى القول ب "موت الإنسان" في فلسفة "جنائزية"، ما تلبث أن تذكرنا بتناهينا الأنطولوجي ( الموت ).
  فكيف السبيل إلى الخروج من هذا المأزق/الورطة ؟ يقترح البعض ضرورة نحت مفاهيم تشكل طريقا وسطا وتقرب وجهتي النظر السالفتي الذكر من خلال الحديث عن الحرية النسبية و الحرية المشروطة أو المسؤولة، أو البين- ذاتية ( ميرلوبونتي )، أو نظرية الكسب ( في الفكر الإسلامي)...فهل هذه الرؤى تحل فعلا مشكلة الحرية، أم أنها لا تعدو أن تكون مجرد تعميق لتلك الإحراجات ؟هل ينبغي أن نغير الوجهة و السؤال فننظر إلى مسألة الحرية من زاوية سياسية محضة ( تستبعد ما هو لاهوتي و ميتافييزيقي ووجداني) في علاقتها بالأنظمة الديمقراطية أو الكليانية ( حنا آرندت ) ؟ قد يبدو هذا الأمر ناجعا إذ يخلصنا على الأقل من تلك الحيرة التي تتملكنا كلما حاولنا التساؤل بصدد وجودنا.
   لكن هل نستطيع فعلا الكف عن إثارة مثل هذه التساؤلات الوجودية ؟ أليست هذه هي "الضريبة " التي ينبغي أن نؤديها مقابل امتلاكنا القدرة على التساؤل و التفكير؟ ثم هل من حقنا أن نحسد الموجودات الأخرى  إذ حرمت نقمة/متعة التساؤل؟

أي مسقبل لشعار الإصلاح في ظل الإستقرار؟

وعياً منا بأهمية امتلاك الحس النقدي، في تناولنا كل الموضوعات، وبالتزامن مع ذكرى العرش، ومرور 15 عاماً على ما أطلق عليه "العهد الجديد"، نحاول أن ننجز وقفة نقدية. ونتوقف هنا عند هذا النعت الذي أطلق على فترة حكم الملك محمد السادس (العهد الجديد). فإلى أي حد يصح الحديث عن مغرب "العهد الجديد"؟ وما مدى مصداقية شعار "الإصلاح في ظل الاستقرار"، الذي صار عنواناً لمرحلة ما بعد الربيع العربي في المغرب؟ شهد المغرب خطوات إيجابية جعلت بعضهم يعتقد أن قطار الانتقال الديمقراطي انطلق من دون رجعة، في مقدمتها، تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة، مدونة الأسرة، السماح لوسائل الإعلام بالتطرق لموضوعات كانت تعتبر من المحرمات، وإطلاق مشاريع تنموية، مثل الميناء المتوسطي، ومشروع الطاقة الشمسية، ونظام التغطية الصحية (راميد)، والسعي إلى إصلاح نظام المقاصة... إلخ. يتضمن ذلك كله إصلاحاتٍ عديدة، قامت بها المؤسسة الملكية والحكومات المتعاقبة، لكن، ما لم نتساءل حول ما هو جوهري، سنظل مرددين القول الشائع "العالم زين"، والمغرب أجمل بلد في العالم، بل وسنعود القهقرى، وسنسمع عن أشباه الشعراء والفنانين والمثقفين الذين يتغنون ويطبلون للمنجزات والسياسات، بدل التفكير فيها، ومعها وضدها، ذلك أن التقدم رهين بالتفكير النقدي، لا بالتغني والتهليل. والسؤال الذي يمكن أن نسترشد به، حتى لا نسقط في التيه، ولا نقف عند القشور: هل أسهمت تلك الإصلاحات في انتقال المغرب إلى صف الدول الديمقراطية؟ أو على الأقل هل نسير في الاتجاه الذي سيوصلنا إلى الهدف المنشود، وهو مغرب العدالة والكرامة والديمقراطية؟ يعترف دستور 2011، قبل الواقع الذي نعيشه، بأن نظامنا السياسي لم يستطع التخلص بعد من عباءة الاستبداد، وأنه ما يزال متشبثاً بنظامٍ مغرق في التقليدية، وإن كان الخطاب الذي يوظفه، من مفاهيم ومقولات، يحيل إلى المعجم السياسي الحديث، من دون القطع، بالطبع، مع المعجم السياسي التقليدي، بل إننا شهدنا "ردة" على مستويات عدة، مع هبوب رياح الربيع العربي. فما هي تجليات ومؤشرات الاستمرار في التشبث بالنظام المخزني، واحتكار المال والسلطة؟ على المستوى الدستوري والسياسي: الإبقاء على المؤسسة الملكية فاعلاً رئيساً في الشأن العام، وتكريس ملكية تنفيذية، تمسك بزمام الأمور، رئاسة المجلس الوزاري، وإمارة المؤمنين، وتتولى رئاسة مجالس عليا، وتحتفظ بصلاحيات واسعة. علاوة على استمرار تحكم وزارة الداخلية في رسم ملامح الخريطة الانتخابية، بما يمنع من حصول أي من الأحزاب على نسبة تقيه شر التحالفات الهجينة. الأمر الذي يكرس السؤال عن جدوى الانتخابات، والأحزاب، ويدفع إلى الزهد في العمل السياسي والمشاركة في التصويت. أضف إلى ذلك عودة ظاهرة التكنوقراط في النسخة الثانية من حكومة العدالة والتنمية، ما يعني التنصل من مبدأ المحاسبة الانتخابية. وعلى المستوى الحقوقي: فشل تجربة المصالحة والإنصاف، إذ أسست "للعدالة العرجاء"، التي لم تقوَ على محاكمة المسؤولين عن سنوات "الجمر والرصاص". ثم استمرار استغلال قانون الإرهاب، وليست تجربة 2003 بعيدة عنا. بالإضافة إلى التقهقر في مجال حرية الصحافة، من اعتقال الصحافيين، وتغريم الصحف، والتضييق على الرأي الآخر، ومنع بعض الحريات الفردية والعامة، ومنع المظاهرات والوقفات الاحتجاجية وقمعها، كما حصل لحظة العفو عن مغتصب الأطفال دانييل، وكما يحصل مع العاطلين عن العمل، ولا ننسى نهج سياسة الانتقام من مناضلي 20 فبراير. على المستوى الاقتصادي: النموذج التنموي المغربي، ممثلاً في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والذي ما فتئت الدولة وأحزاب وجمعيات تتغنى به، عوض أن تطرحه لمشرحة النقد، تكسر على صخرة التقارير الدولية، وجديدها تقرير التنمية البشرية، الذي بوأنا المراتب المتأخرة وراء دول تشهد حروباً وأنصاف ثورات. ولعل مسلسل إفقار الفقراء وإثراء الأثرياء، وتعميق الفوارق الطبقية لا يحتاج إلى تقارير، إذ العين لا تخطئه في كل مكان. من دون أن نغفل استمرار اقتصاد الريع، واحتكار المشاريع، وهدر المال العام، باعتراف تقارير المجلس الأعلى للحسابات، ودع عنك استمرار مسلسل فشل، وإفشال المنظومة التعليمية، فتلك حكاية "أمر من المرارة". عطفاً على ما سلف ذكره، يتبين أننا نعيش فترة ينطبق عليها شعار "الإصلاح في ظل الاستبداد". أي الإصلاح الذي يستهدف تجميل وجه عجوز بلغت من الكبر عتيا، إنه الإصلاح الذي يقوم على مبادرات إيجابية، هنا وهناك، لكنه لا يمس جوهر النظام السياسي وطبيعته. فهل يعني ذلك أن نغلق الصندوق علينا بإحكام، فلا نترك فرصة لبزوغ الأمل في غد أفضل؟ الإجابة عن هذا السؤال تتجسد في مآلات الحراك الشعبي، والتحركات الهادفة للتغير الجذري، التي وإن بدا أن شمعتها انطفأت، فإن طموح العيش في مغرب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة سيعمل على إحيائها كفكرة، وكحركة. فما السبيل إلى ذلك؟

الضمير العالمي الخاسر في العدوان

http://www.alaraby.co.uk/opinion/ed389cb8-3386-4e40-8179-be6e09c47f2e