نموذج تطبيقي (النص ل "كارل ماركس,مباهج
الفلسفة، السنة الأولى من سلك البكالوريا, ص108")
لا
يخلو العمل داخل المناجم من مظاهر القسوة والإستغلال، تتجسد في ظروف العمل الصعبة
التي قد تودي بحياة العامل، وفي الأجور الزهيدة التي لا تتناسب والأثر المادي الذي
ينتجه (استخراج المعادن النفيسة خاصة)، مما يخلق نوعا من الإغتراب المزدوج- إن صح
التعبير- لدى العامل: اغتراب أثناء العمل ، وبعد الإنتهاء منه. و على الرغم من ذلك
فإن النظرة الكلية عن الشغل تدفع إلى اكتشاف تجليات تحريره للإنسان من سلطة
الطبيعة، ومن الخضوع للمعطى الطبيعي البيولوجي، ومنحه قدرا من الإستقلالية عن
الغير. و على ضوء هذه المفارقات سنحاول قراءة
هذا النص – الذي ينفتح على مجال الفاعلية والإبداع، ويثير قضية تأرجح الشغل
بين الإستلاب والحرية- مسترشدين بالإشكالات الآتية. هل الشغل يحرر الطاقات
الإبداعية والفكرية للإنسان ويسهم في استقلاله فعلا، أم أنه ليس إلا استلابا
لحريته وهدرا لإنسانيته؟ ثم ألا يؤكد العامل ذاته بواسطة الشغل ؟ وإلى أي حد يمكن
القول إن الشغل يفقد العامل ذاته، ويجعله مغتربا؟
يتقدم
صاحب النص بأطروحة مؤاداها أن العمل
استلاب واغتراب للعامل، ويترتب عنه نفي الذات الإنسانية. فكيف عرض ودافع
الفيلسوف عن هذه الدعوى ؟
استهل فيلسوفنا نصه هذا بإثارة سؤال استفساري حول تجليات استلاب العمل. و قد أجاب عنه مستعرضا أهم مظاهر هذا الإستلاب، مؤكدا أنه يتمثل في انفصال هذا العمل عن العامل، إذ أنه ليس نابعا
من حاجة سيكولوجية أو رغبة ذاتية، بقدر ما هو قائم على السعي لتحصيل موارد مادية
تؤمن له الحاجات (البيولوجية) الأساسية. وعلاوة على ذلك يشكل العمل نفيا لذات
وكيان العامل، ذلك أنه يفرغه من مشاعره الإنسانية و آماله وأحلامه، ليصير أشبه
بالإنسان الآلي (ولنتذكر هنا انتقادات كل من ف.انجلز F. Engels ودي توكفيل A.D . Tocqueville
لظاهرة تقسيم العمل الذي يشيئ العامل،ويجعله مجرد آلة
تكرر عمليات جد دقيقة طوال مدة العمل ). ومن البديهي – والحال هذا- أن يشعر العامل بالتعاسة والشقاء، فهو يقوم
بحركات ميكانيكية أقرب إلى التعذيب النفسي، وأبعد ما تكون عن المتعة. و في الوقت
الذي يعاني جسده يموت فكره كذلك، إذ يضيق مجال تفكيره ويصير مسيجا بعمله
"الآلي"، ولا يترك له فرصة التساؤل أو النقد أو الإبداع...الخ.
و
في هذا السياق يمكن أن نلاحظ حضور آلية المقابلة كآلية حجاجية توسل بها
الفيلسوف بغية إبراز طابع الإستلاب الذي يغلب على العامل، ودحض الدعوى
الممجدة للشغل بصفة مطلقة. ويبدو جليا أن تلك الآثار السلبية التي تنجم عن الشغل
هي التي تفسر وتثبت ذلك الشعور الذي يتملك العامل بفقدان وضياع ذاته أثناء
العمل. فبدل أن يحقق ذاته، و يؤكد إنسانيته، ويكرس استقلاليته، يجد نفسه ضائعا
ومغتربا وسط نشاط وفاعلية يمارسها تحت ضغط الحاجة (البيولوجية) والفقر. فلا غرو إن
كان يحاول جاهدا التخلص من هذا العمل، وإن كان لا يستعيد ذاته إلا خارجه.
في
هذا الإطار نصادف مفهوم الإستلاب الذي يشكل محور النص –الذي نعالجه- والذي
يحيل إلى شعور العامل بفقدان وضياع ذاته، واغترابه عن عمله. فهو مستلب داخل
الشغل الذي يهدر إنسانيته وينفيها، و يفقده حريته، وهو كذلك غريب عن منتوجه الذي
ليس ملكا له بل إنه ملك لغيره(رب العمل). وبعبارة أخرى لا يتملك العامل ما ينتجه،
بل يتملكه أولئك الذين لا يعملون. وواقعنا المعيش يعري ظروف العمل القاسية التي
يعاني منها العمال ككل، ولننتبه هنا إلى عمال البناء الذين يبنون المنازل والفيلات
ويسكنون الأكواخ. ولنتذكر أيضا عمال المناجم الذين يستخرجون بعض الأحجار الكريمة
والمعادن النفيسة التي قد تباع بأثمنة خيالية في المزادات، في الوقت الذي ينشغلون
فيه بتوفير متطلبات الحياة اليومية البسيطة. فأي اغتراب أمر (من المراراة) من شعور
العامل بالعجز تجاه منتوج أسهم في إنتاجه!
ويتضح
مما سلف أن الشغل يشير إلى تلك الفاعلية الإنسانية التي يستلب فيها الإنسان
العامل ويغترب داخلها، كما أنه يفقد فيها ذاته ولا يؤكدها، و تجعله في وضع التبعية لا
الإستقلالية.
ينتهي بنا الفيلسوف إلى استنتاج
مفاده أن الإنسان-العامل، بفعل هذا الإستلاب، تنقلب لديه المعادلة رأسا على
عقب،"فما هو حيواني يصبح إنسانيا، وماهو إنساني يصبح حيوانيا" على حد
تعبيره. ويعني هذا أن العامل يجد نفسه تلقائيا وعفويا وهو يمارس وظائف حيوانية (من
قبيل الأكل والشرب والتناسل)، و يشعر بالمتعة وكأنه استعاد ذاته التي ضاعت منه في العمل،
وعلى خلاف ذلك يتحول الشغل - النشاط الإنساني بامتياز مبدئيا- إلى مجرد فعل محكوم
بالسعي لإشباع حاجات حيوانية، فتنتفي بذلك إنسانيته لتحل محلها حيوانيته في الشغل.
يتمحور النص،إذن،حول فكرة الإستلاب والإغتراب
التي تحضر في الشغل. والسؤال الذي يفرض نفسه،هنا، هو: ما هي أبعاد هذه الأطروحة؟
قد لا يسعنا أن ننكر القيمة
الفلسفية لهذه الدعوى التي تكشف عن واقع العمل المزري (في مجتمعاتنا بدرجة أوضح،
وفي المجتمعات الرأسمالية بدرجة أقل جلاء)، التي يمكن نعتها بنوع من "النيو-عبودية"
(إن جاز التعبير)، ترتسم ملامحها في ارتفاع ساعات العمل، وانخفاض الأجور، ومشاكل
تسريح العمال ، ولا ننسى انعكاسات نظام الآلية (أو المكننة) التي توقف عندها
الأمركي ج.فريدمان G.
G.Friedmann
مطولا مبينا
سلبياتها،و تشييئها للعامل.وقد زادت ظاهرة تقسيم العمل وفق النظام
"التايلوي" من مظاهر استلاب العامل حين جزأت حركاته وسعت لضبطها،فاستحال
العامل إلى مجرد آلة تكرر حركات روتينية، تترك "ندوبا نفسية" تحتاج إلى
علاج نفسي ربما. كما لا ينبغي أن نغفل تحول العامل إلى أداة في خدمة المجتمعات
الإستهلاكية. (وهو الأمر الذي انتقدته كثيرا مدرسة فرانكفورت الفلسفية مثلا). ولعل
اهتمام المجتمعات الرأسمالية بتطوير "علوم الشغل" يعكس بوضوح تلك النظرة
التي لا ترى في الإنسان-العامل إلا وسيلة لزيادة الإنتاج والربح، وإذ يتراكم عدد
أثرياء العالم يزداد عدد الفقراء بالمقابل.
إذا كان لهذه الرؤية
السلبية للشغل ما يبررها، فإن الإفراط فيها يجعلنا ننظر بعين واحدة فقط. فهل يمكن
أن نغض الطرف عن كون العمل يمثل الوسيلة الأنجع لنهضة الأمم؟ وهل بمقدورنا أن ننكر
أن الإنسان تحرر من سيطرة الطبيعة عليه بفضل الشغل؟ ولنلاحظ كذلك أن شروط العمل في
المجتمعات الرأسمالية قد تحسنت مقارنة بالمجتمعات السابقة عليها، إذ صارت للعمال حقوق
أساسية (نقابية واجتماعية...) نتيجة نضالاتهم الطويلة. أضف إلى ذلك أن نظام
المكننة قلص من قسوة العمل.
بالعودة إلى الإستراتيجية
الإستدلالية للنص نجدها مقنعة إلى حد ما، ومتماسكة العناصر والمكونات، و جمعت بين
الجانب البلاغي (السؤال الإستفساري والمقابلة...) والمنطقي (الإستنتاج) و مكنت الفيلسوف من استعراض أبرز تجليات
الإستلاب. بيد أنه أغفل تدعيم موفقه بمثال مناسب (لما للمثال من أهمية )، كما غض
النظر عن الجوانب الإيجابية للشغل. فهل يمكن للإنسان أن يكون إنسانا بدون العمل؟ أليس
الشغل نشاطا يعكس الحرية الإنسانية؟